ترامب وأفريقيا- إهانة أمريكية وفرصة لاستقلال استراتيجي للقارة

المؤلف: جلال الورغي08.24.2025
ترامب وأفريقيا- إهانة أمريكية وفرصة لاستقلال استراتيجي للقارة

لم يمضِ وقتٌ طويل على التوتر الحاد الذي نشب بين الرئيس الأمريكي آنذاك، دونالد ترامب، ونظيره الجنوب أفريقي، سيريل رامافوزا، بسبب ادعاءات ترامب بوجود عمليات قتل جماعي تستهدف البيض في جنوب إفريقيا، حتى عاد ترامب مرة أخرى ليظهر قوته أمام خمسة قادة أفارقة استدعاهم إلى البيت الأبيض، وتحدث إليهم بطريقة تنطوي على إهانة وتقليل من شأنهم.

يبدو أن المواجهة التي جرت في البيت الأبيض بين ترامب ورامافوزا كانت تهدف، من وجهة نظر ترامب، إلى تصفية حسابات مع جنوب إفريقيا، ليس فقط بسبب مزاعم استهداف الأثرياء البيض من قبل حكومة رامافوزا، بل أيضًا بسبب موقف جنوب إفريقيا من العدوان على غزة، وقرارها بملاحقة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، وهو قرار جريء لاقى تأييدًا واسعًا من الرأي العام الدولي ضد جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة.

لم يكن موقف جنوب إفريقيا هذا مقبولًا لدى الإدارة الأمريكية، التي يغلب عليها التحيز لإسرائيل في مختلف المستويات، سواء على مستوى الفريق الرئاسي أو السياسات المتبعة.

تعكس السياسة الخارجية الأمريكية الراهنة إلى حد كبير شخصية الرئيس ترامب وميوله، وهي سياسة يصعب تحديدها أو وصفها بدقة بسبب التغيرات المفاجئة وغير المتوقعة التي تطرأ عليها، والتي تعكس شخصية ترامب الفريدة، والتي تتجاوز التصنيفات التقليدية، فهو شخصية ترفض تقاليد المؤسسة الحاكمة وأعرافها، وتتخطى الثوابت السياسية الراسخة في الدبلوماسية والعلاقات الخارجية الأمريكية.

تبدو إفريقيا اليوم متأثرة بشكل كبير بهذه التقلبات التي تتسم بها السياسة الخارجية الأمريكية، والتعديلات والتحولات الكبيرة التي يسعى ترامب إلى فرضها، والتي يهدف من خلالها إلى إعادة صياغة دبلوماسية جديدة، تنفصل عن الأسس التي قامت عليها السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية.

توقع العديد من المحللين الأمريكيين أن تشهد العلاقات الأمريكية الإفريقية تغييرات كبيرة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فالسياسة الخارجية الأمريكية تجاه إفريقيا تعتمد بشكل أساسي على إستراتيجية "القوة الناعمة"، من خلال الدور الذي تلعبه الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID، وخاصة في تحفيز التغيرات السياسية، أو تقديم المساعدات الإنسانية، أو دعم التنمية الاقتصادية، أو التعاون العسكري عبر القيادة الأمريكية في إفريقيا AFRICOM.

تبدو هذه العلاقات الأمريكية الإفريقية مهددة اليوم، مع قرار إدارة ترامب بإلغاء الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والتوجيه بإنهاء القيادة الأمريكية في إفريقيا، بالإضافة إلى فرض رسوم جمركية على البضائع الإفريقية، وهي قرارات سيكون لها تداعيات خطيرة على دول القارة الإفريقية، خاصة فيما يتعلق بعرقلة فرص التنمية، ومواجهة التحديات المناخية، والأزمات الاجتماعية، والتحديات الأمنية.

إلا أن هذا الموقف الأمريكي تجاه إفريقيا، والذي عبّر عنه ترامب بشكل واضح عند استقباله للرئيس الجنوب أفريقي، والإهانة التي تعرض لها قادة خمس دول أفريقية عند استقبالهم من قبل ترامب، يجبر دول القارة على استغلال هذه اللحظة التاريخية للتفكير مليًا في مكانتها الدولية، والتحديات التي تواجهها، والفرص المتاحة لتبني رؤية تأخذ في الاعتبار إمكانات هذه القارة ومواردها وموقعها، ورسم إستراتيجية تدريجية للاستقلال الإستراتيجي، مستفيدة من مكانتها.

  • أولًا: تتمتع القارة الإفريقية بثقل ديموغرافي كبير، حيث يبلغ عدد سكانها حوالي 1.4 مليار نسمة، أي ما يعادل ربع سكان العالم تقريبًا، مما يجعلها ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان بعد قارة آسيا.
  • لكنها ستكون القارة الأولى التي تضم العدد الأكبر من الشباب القادر على العمل، بسبب ارتفاع نسبة السكان الذين تقل أعمارهم عن 25 عامًا، وتبلغ مساحة إفريقيا أكثر من 30 مليون كيلومتر مربع، أي ما يعادل ربع مساحة اليابسة في العالم، وتضم القارة الصحراء الكبرى ونهر النيل وسلسلة جبال كبرى، وتتميز بمناخ متنوع يتراوح بين الاستوائي والصحراوي.

  • ثانيًا: تتزايد الأهمية الاقتصادية لدول القارة بسبب ما تحتويه من ثروات طبيعية يتم اكتشافها باستمرار، وخاصة النفط والغاز والذهب والماس والمعادن النادرة، التي أصبحت اليوم محط أنظار الدول الكبرى، وتحوّل بعض هذا التنافس إلى صراعات خفية وحروب غير معلنة.
  • يشهد التنافس على ثروات القارة تصاعدًا من قبل العديد من القوى الكبرى، في ظل الاكتشافات المتزايدة للمعادن الثمينة والنادرة في العديد من دول القارة.

    كما أن القارة الإفريقية لا تزال تمثل أحد أهم مصادر الطاقة في العالم، وتعززها الاكتشافات الجديدة الهامة، سواء في الساحل الغربي لإفريقيا أو في دول الجنوب.

  • ثالثًا: تضم القارة 54 دولة تشكل منظمة الاتحاد الإفريقي، وتحظى بعضوية في الأمم المتحدة. هذا الرقم يمثل وزنًا دبلوماسيًا وسياسيًا كبيرًا في التأثير على قرارات الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها، مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والمفوضية السامية لحقوق الإنسان.
  • تسعى القوى الكبرى إلى كسب تأييد الدول الإفريقية الأعضاء في الأمم المتحدة للتصويت لصالحها ودعم مواقفها، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا.

    كما تتسابق العديد من الدول على التواجد الفعال في القارة الإفريقية، سواء من خلال افتتاح سفارات وقنصليات، أو من خلال تنظيم قمم مع دول القارة، وشهدت السنوات الأخيرة عقد قمة أفريقية أمريكية، وقمة أفريقية صينية، وقمة أفريقية أوروبية، وقمة أفريقية روسية، وقمة أفريقية تركية، وقمة أفريقية يابانية، وقمة أفريقية سعودية.

    تهتم الصين بشكل خاص بكسب دعم دول إفريقيا في ملف تايوان، بينما تسعى روسيا إلى تأييدها في ملف أوكرانيا منذ سيطرة موسكو على القرم، وتحاول إسرائيل بدورها استمالة أكبر عدد ممكن من الدول الإفريقية لصالحها في ملف الصراع العربي الإسرائيلي.

    يدور نقاش مستمر في أروقة الأمم المتحدة حول الإصلاحات الداخلية المطلوبة، وتوجد مقترحات تدعو إلى ضرورة حصول إفريقيا على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، وقد حصلت القارة منذ حوالي عامين على العضوية في مجموعة العشرين (G20).

    في الفترة ما بين عامي 2010 و2016، تم افتتاح 320 سفارة وقنصلية جديدة في إفريقيا، من بينها أكثر من 30 سفارة وقنصلية لتركيا، وقد قام مسؤولين صينيين بـ 79 زيارة لإفريقيا خلال عقد من الزمن، بينما يعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أكثر زعماء العالم زيارة لدول القارة الإفريقية.

  • رابعًا: على الصعيد العسكري، بالإضافة إلى وجود القيادة الأمريكية في إفريقيا، يتزايد الحضور العسكري الروسي بشكل ملحوظ في العديد من الدول الإفريقية، ويتخذ هذا الحضور الروسي شكلين، أحدهما رسمي والآخر غير رسمي، من خلال قوات "فاغنر"، التي تقوم بأدوار مختلفة في العديد من الدول الإفريقية، سواء بتقديم الدعم للقوات الحكومية أو بتنفيذ مهام خاصة لحفظ الأمن، وقد تحول القرن الإفريقي إلى ساحة تنافس بين إيران من جهة ودول خليجية من جهة أخرى.
  • تحتفظ الصين بقاعدة عسكرية في جيبوتي، وتلعب دورًا رائدًا في حفظ السلام، وتتفوق بكين على بقية القوى العظمى في مبيعات الأسلحة، حيث تربطها علاقات عسكرية بـ 45 دولة، بهدف حماية استثماراتها التي تتجاوز 200 مليار دولار في القارة.

    تحمي الصين تجارتها في القارة الإفريقية التي تمثل جزءًا من طريق الحرير الجديد، حيث يقيم في إفريقيا أكثر من مليون صيني، وفي عام 2011، أرسلت بكين بارجة حربية إلى إفريقيا في خطوة لافتة لإجلاء رعاياها من ليبيا بعد اندلاع الثورة في البلاد، وارتفعت نسبة صادرات السلاح الصيني من 16% إلى 26% بين عامي 2012 و2017.

    إن سلوك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه إفريقيا، سواء بإعلانه عن تقليص الوجود الأمريكي في القارة أو بإهانة قادة القارة، يعكس عدم إدراكه لأهمية القارة ومكانتها في المشهد الدولي الحالي والمستقبلي.

    فهذه القارة التي تمثل ثقلًا ديموغرافيًا كبيرًا (من المتوقع أن يتجاوز عدد سكانها 2.5 مليار نسمة في عام 2050)، وثقلًا دبلوماسيًا وازنًا (حيث تضم 54 دولة أفريقية عضوًا في الأمم المتحدة)، وثقلًا اقتصاديًا (بما تملكه من ثروات طبيعية وسوق ضخمة)، وثقلًا استراتيجيًا (بفضل موقعها المتميز)، لا يمكن التعامل معها باستهتار أو عشوائية.

    تتزايد أهمية إفريقيا بوتيرة متسارعة وعلى مستويات مختلفة، مما يجعلها قارة قادرة على الاستفادة من هذا التنافس بين القوى الكبرى عليها، خاصة إذا تمكنت من تعزيز الإصلاحات داخل منظمة الاتحاد الإفريقي، وتبني رؤية استراتيجية لتعزيز مكانة القارة والتمكين لها على المستوى العالمي.

    إن دخول إفريقيا الشابة مرحلة جديدة واعدة، وتحولها إلى ساحة تنافس بين القوى الكبرى، يجب ألا يسمح بأن يكون هذا التنافس بلا نتائج إيجابية، بل يجب أن تفرض هذه القارة بمكانتها وإمكاناتها نفسها كمركز جذب لمختلف المشاريع التنموية والاستثمارية، التي تنعكس على دول القارة استقرارًا سياسيًا وتنمية اقتصادية ونهضة شاملة، تطوي الصورة النمطية المتدنية للقارة القادمة.

    سياسة الخصوصية

    © 2025 جميع الحقوق محفوظة